الجوانب الأخلاقية عند النبي محمد خاتم الأنبياء والرسل ﷺ

 

نعيش اليوم على بعد حوالي ١٥ قرنًا على غياب الرسول الأكرم عن شعبه وعن أمته وعن العالم أجمع. ١٥ قرنًا مليئةً بالأحداث والفتن والمصائب والحروب، واستغلال واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان سياسيًا وامنيًا واقتصاديًا وعلميًا. ١٥ قرنًا كنّا بحاجة ماسّة للبناء والإنماء والتقدم العلمي، ولوجود قيادات كبيرة و عظيمة ورحيمة، تتّصف بمكارم الأخلاق، والمحبة، والتعاون، كما كنت يا رسول الله!

ومع أنّنا نركّز اليوم على الجوانب الأخلاقيّة السامية عند النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وثورته على الجهل والتخلف والعادات الكريهة التي سادت العصر الجاهلي قبل الإسلام، لا غرو أن نضيء ولو في لمحة سريعة عن الحياة القبلية قبل قيام هذا الدين الحنيف، وعلى دور النبي محمد (ﷺ) ودور الدين الجديد في تغيير هذه الحياة. فلقد كان الظلم والظلام هما السمة الغالبة على حالة العرب في الجاهلية التي سادها التمزّق والتفرقة والانقسام، وعبادة الأصنام، ونشوب الحروب والغزوات بين القبائل والعائلات والتي كان يذهب ضحيتها آلاف البشر، كما جرى في حروب البسوس، وداحس والغبراء، وغيرها، والتي استمرت عشرات السنين. ولعل الوصف الدقيق لحالة الإنسان الجاهلي كان بجواب جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه للنجاشي ملك الحبشة آنذاك بعدما سأله عن الدين الجديد وظهور الرسول عليه الصلاة والسلام كقائد لهذا الدين قائلًا :

“أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ قَوْلِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ”.

هذه هي أهم الفكر والمعاني السامية المطروحة أمام كل الأمم ليغدو هذا الإسلام الجديد آمال كل إنسان يطلب الحرية وينشد العيش بسلام وكرامة!!!

ولعلنا لا نخطئ إذا اخذنا كلام القرآن وآياته الكثيرة التي وصفت الرسول (ﷺ) بصاحب الأخلاق الكبيرة والكريمة، طريق هداية وثبات لبحثنا هذا. وهل هناك من كلام أصدق وأكبر من كلام  الله ﷻ : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)  

 فَبِما رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ

إن الآية الكريمة تحكي لنا عن جوانب العفو والرحمة والرفق واللين في حياة الرسول الأعظم، وما أكثر تلك الصفات الأخلاقية النبيلة، والمواقف العظيمة، التي تحيط بحياة رسولنا الأكرم. أليس هو القائل وما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق؟؟!! وكفى بالله شاهدًا.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ 

لقد وصفت هذه الآية الكريمة الرسول (ﷺ) بأوصاف تنمّ عن مدى تأثره واهتمامه بوضع المسلمين وشؤونهم وحرصه عليهم!! وحين يصيب الواحد منهم بعض المشقة والعناء فإن ظلالًا من الأسى والحزن تخيّم عليه، وتعبر عن مدى شفقته ورحمته عليهم وتلك صفات القائد العظيم

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

ما أعظم ما وصف الله ﷻ به نبيّه!! هنيئا لك هذا الوصف الكبير يا أبا الزهراء، يا اعظم رجل انجبته البشرية و عرفه التاريخ، رسولًا للرحمة والإنسانيّة، وقائدًا للتوحيد، وآيةً في البذل والعطاء. ويتوسع شمول الرحمة للعالم أجمع إذ أنه ليس مرسلًا إلى قومه فحسب وتشمل هذه الرحمة المؤمنين في الدنيا والآخرة، وكذلك باقي الناس الكفرة والملحدين، لأن الاستقرار الداخلي عمّ الناس جميعا، والمحبة والألفة كانت هي السائدة في كل البلاد والأقطار.

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا

إن هذه الآية الكريمة تبين مدى غضب وحزن واسى النبي (ﷺ) عن تغاضي وإهمال فئة من الناس، وسيرها في الضلال وعدم إيمانها بتعاليم هذا القرآن الشريف. فكان الرسول (ﷺ) يتمنى على هذه الفئة الضالة أن تعرف طريق الحق، وتتّخذ دين الإسلام نهجًا لها، وآياته الشريفة طريقًا لاختيارها السليم، من هنا كان هذا الحزن الكبير.

طه ۝ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ۝ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ۝

فما عليك يا رسول الإيمان والهداية والمحبة والرحمة إلا أن تحثّ الناس وتدعوهم إلى طريق الله ﷻ، طريق الهداية والاستقامة والإيمان، وعلى الفئة الضالّة أن تترك الكفر وتعبد الله الأحد، وإن لم تستقم وتتراجع، فمصيرها جهنّم وبئس المصير.

 لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 

في تاريخ كل أمةٍ رجالٌ، نُقِشت أسماؤهم على صفحات القلوب، إما لدورهم الكبير ومقامهم العظيم في قيادة شعبهم وأمّتهم نحو المجد والانتصار،  وإما لعلمهم وأخلاقهم وسعيهم للنجاح في كل الميادين. فالسلام على النبي الأمّي (ﷺ)، الذي بعثه الله ﷻ رحمة للناس، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتابة والحكمة، ليكونوا في مقدمة شعوب الدنيا. لقد كان بحق أسوة حسنة في كافة المجالات، في عبادته وتقواه، وفي كرمه وعفّته، وفي تواضعه ورحمته وتسامحه وشجاعته. وقبل كل شيء وبعده، في أخلاقيّاته وبعده الإنساني.

وبعد، لقد كَثُر الحديث عن عظمة وأخلاق وشيم النبي (ﷺ)، ودوره في تغيير حياة الشعوب إلى الأفضل، وتحقيق السلام، ونشر فضائل الدين، من قبل الكثير من المفكرين والنقاد والعلماء، الذين أشادوا بموقع النبي التاريخي والعالمي. وهذا الدكتور مايكل هارت الذي ألّف كتابا للحديث عن أعظم مائة رجل في العالم، قد وضع النبي محمد (ﷺ) في المرتبة الأولى، يليه السيّد المسيح عليه السلام. أمّا أمير المؤمنين الإمام علي (؏)، صهر الرسول وأعرف الناس به، فيقول في وصفه للحبيب محمد “كان أجود الناس كفًا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله، ولا بعده مثله”. هذا هو الحبيب الأمين، الصادق الصدوق، الكريم، صاحب أنبل ُخلق في الوجود. والذي قال فيه  الشاعر:

 

 

وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ      **    كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ

 

وختاماً، ارجو أن أكون نجحت بالاضاءة، ولو بالنذر القليل على هذه الأخلاق الربّانية التي وهبها الله ﷻ لرسوله الكريم (ﷺ) والتي خلّدته على مر الزمان.

السلام عليك يا رسول الله (ﷺ)، يا حامل لواء الكرامة والشهامة والعطاء! أسألك اليوم، وفي كل يوم، أن تكون شفيعي يوم القيامة، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

 

الأستاذ هاني إسماعيل
مدير ثانوية النجاح العربية
مدرّس للأدب العربي
أمين سر ندوة الخميس
رئيس منبر بعلبك الثقافي