المتنبي شاعر الفخر بلا منازع

 

أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي

وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ

أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَـهُ

غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ

 

أبو الطيب المتنبي هو كبير ملّاحي سفن الشعر. أجرى الرياح كما اشتهت سفنه وكان أحبها إليه سفن الفخر والحكمة والمجد والقوّة، وتلك التي تحمل رايات المعارك وتدفع بالملوك إلى المنفى!

والده كان سقّاءً في أسواق الكوفة وكان يعرف بعبدان السقّاء. ويذهب بعض الناس بالقول إن نسب أبي الطيّب المتنبي يعود إلى أحد أشراف الشيعة في العراق؛ أما البعض الآخر فيقول إن نسبه يعود إلى المهدي المنتظر (ع) كما جاء في أحد الكتب “المتنبي يسترد اباه”:

يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ         

وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى

وَإِنّي لَمِن قَومٍ كَأَنَّ نُفوسَنا              

بِها أَنَفٌ أَن تَسكُنَ اللَحمَ وَالعَظما                                      

وعلى أيّ حال، وأيّ كان نسبه، فالمتنبي منذ صغره ذو نفس نزّاعة إلى المجد، مدمنة على المغامرة، تشعر أنّ لها حقًا اغتصبه منها الآخرون، وتنظر هذه النفس إلى الوضع فتراه وضعًا فقدت فيه السياسة العربيّة أيّ دور له أهميته، وكثرت على حكّامه مؤامرات القادة والمستشارين والوزراء وحتى الخدم كما حصل في مصر. واشتعل بالفتن والثورات وانقسمت فيه الخلافة العبّاسيّة إلى إمارات، وخيّم عليه مناخ اقتصادي وأخلاقي أقرب إلى الانهيار والتهتّك منه إلى أيّ شيء آخر.

إزاء هذا الوضع، وجد أبو الطيّب المتنبي نفسه مدفوعًا برغبة ملحّة إلى تجربة سياسيّة تكون نتيجتها تأسيس إمارة عربيّة، ينطلق منها إلى تأسيس وضع سياسي عربي يمتد على رقعة واسعة من أرض الخلافة العباسيّة. ولعلّنا لا نجافي الحقيقة في شيء إذا بينّا بأن رحلة المتنبي مع الشعر بشكل عام، ومع الفخر بشكل خاص قد مرّ بأدوار ثلاث.

الدور الأول كان في صباه وفي ادّعائه النبوة. والدور الثاني كان في وجوده في بلاط سيف الدولة الحمداني. أما الدور الثالث فكان بعد تركه سيف الدولة وذهابه إلى دمشق ثم الرملة في فلسطين حتى استقدمه كافور الإخشيدي والي مصر.

ويختلف الرواة في أمر ثورة المتنبي، فمنهم من يقول إنه ثار مرّة واحدة، ومنهم من يقول إنه ثار مرّتين وإنّه ادّعى النبوّة لإلباس حركته الثوريّة لباسًا دينيًا، فمَثُل بها أمام البدو بمظهر النبي الصالح والإمام العارف! والمعروف أن أبا الطيّب قد ثار بالبدو وهو لمّا يتجاوز العشرين من عمره. وتصدّى له لؤلؤ والي مدينة حمص من قبل الإخشيديين وسجَنَهُ مدّة من الزمن ذاق فيها مرارة الأسر والجوع، وتعرّضت شوكة كبريائه للانكسار.

وكما تعدّدت آراء الباحثين حول نسب أبي الطيّب، كذلك تعدّدت آراؤهم حول لقبه “المتنبي”. وقد اعتبر البعض ادّعاء أبي الطيّب النبوّة سببًا في هذا اللقب. كما اعتبر البعض الآخر أن سبب لقبه يعود إلى تشبيه نفسه بالأنبياء من خلال بعض شعره. أمّا أولى براعم شعره فكانت في عزّ صباه أيام ادّعى النبوّة وحلم بالوصول إلى أهدافه السياسيّة التي عمل لها وجاهد حتى تحقيقها:

أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي 

أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي

وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـلهُ

وَما لَم يَخلُقِ

       مُحتَقَرٌ في هِمَّتي  

كَشَعرَةٍ في مَفرِقي

ومع هذا المكان الذي يدّعي ارتقاءه وتلك العَظَمة التي يشعر بأن لا أحد في الدنيا قد وصلها لأنه فريد زمانه، كذلك هو شبيه بالرُسل وأنبياء الله:

                               مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ   

كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ  

فهو شبيه بالسيّد المسيح عليه السلام برحمته وهو مظلوم ومحارَب ولا يقدّر قومه فضله ومقامه ودوره القيادي كمسؤول عن أحوالهم وقضاياهم. وهو شبيه أيضًا بالنبي صالح عليه السلام الذي ناضل بين قومه (ثمود) ودعاهم إلى التوحيد بالله، ولكّن قومه لم يسمعوا له وحاربوه وكادوا أن ينالوا منه:

                                       أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّــهُ   

غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ   

وها هو أيضًا قد خالف كل الشعراء السابقين الذين كانوا يفتخرون بقومهم وأجدادهم وبني عشيرتهم واكتفى بمدح نفسه:

                               لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي 

وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي                       

  إِن أَكُن مُعجَباً فَعُجبُ عَجيبٍ                                   

 لَم يَجِد فَوقَ نَفسِهِ مِن مَزيدِ

تلك هي نفس شاعرنا التي تتوق دائمًا إلى المجد والعلاء والمجبولة بالشرف والإباء وعزة النفس وعيشها بكرامة ولو كلّفها ذلك الشهادة. فهذا هو قدر الكبار والعظماء الذين سيذكرهم التاريخ بأنصع الصفحات:

                  إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ 

فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ

                   فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ 

كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

هو الموت إذًا آتٍ بكل هيبته وسلطانه، فلِمَ الضعف والخنوع والانهزاميّة. والزمان لا يعترف إلا بالأقوياء والجبابرة والمغامرين:

                 وَلَو بَرَزَ الزَمانُ إِلَيَّ شَخصًا 

 لَخَضَّبَ شَعرَ مَفرِقِهِ حُسامي

فليس مشهود لشاعرنا بإجادته الشعر فحسب، وإنما في قوّته أيضًا وفي رجولته وفروسته.

ويبتسم الدهر هذه المرة لشاعرنا فكان اللقاء الكبير والمختلف مع الأمير سيف الدولة الحمداني أمير حلب. والأمير سيف الدولة ذلك الفارس العربي الذي كان الوحيد في تلك الحقبة الزمنيّة المدافع عن حياض العرب والعروبة ضد هجمات الروم والفرنج وغزواتهم المستمرّة. مرابطًا على الحدود المتاخمة ومتصديًا لهم بكل الوسائل الممكنة والفعّالة. فالتقى الشاعر مع الأمير والتقى السيف مع الشعر المبدع، فكان نتيجته فتح جديد في عالم الشعر والأدب، وتجسيد للفروسيّة والنضال.

وقد استطاع أبو الطيّب أن يصوّر مدحه لسيف الدولة مدحًا بطوليًا إذا جاز التعبير مع مظاهر ملحميّة شعريّة فريدة في الشعر العربي، حيث وُجِدَ البطل والسيف والخيول والطيور والأعداء والجماجم والدم والموت والزحف والخطط القتاليّة وكل الأشياء التي يطيب للمتنبّي أن يبدع فيها من تصوير واسترسال في الوصف والتعبير:

                                                                                               وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ 

         كَأَنَّكَ في جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ

                                                                                    تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلمى هَزيمَةً  

وَوَجهُكَ وَضّاحٌ وَثَغرُكَ باسِمُ

                                                                                   تَجاوَزتَ مِقدارَ الشَجاعَةِ وَالنُهى  

 إِلى قَولِ قَومٍ أَنتَ بِالغَيبِ عالِمُ

إنها أبيات تعدّ بصدق من عيون الشعر العربي وإن كان يعتريها الغلوّ والمبالغة الظاهرة بتصويره الممدوح وكأنه يعرف ماذا سيحصل في المستقبل وهذا راجع لله تعالى فقط.

ولا ينسى أبو الطيّب أبدًا مع مدحه للبطل أن يمدح نفسه ويفتخر بشعره ويطرب الناس بعبقريّته الفذّة ونجاحاته التي جابت الآفاق حتى قيل فيه “إنه ملأ الدنيا وشغل الناس”.

والجدير ذكره في هذا المجال أنه كان دائمًا في قصائده المدحيّة يمدح شخصيّتين، شخصيّة الممدوح وشخصيّة نفسه. فهو يفتخر إذا مدح، ويفتخر إذا هجا أو رثا أو تغزّل أو وصف.

ومن عاداته في جميع هذه الفنون أن يرضي نزعة نفسه التوّاقة دائمًا إلى المجد والعظمة والترفّع عن الصغائر، ولكأن لح حقًا غصبته إياه أكفّ الآخرين.

ودخل الحسّاد بين الصديقين الذين آلمتهم كبرياء أبي الطيّب حتى أوغروا صدر سيف الدولة فرشه بدواة كانت أمامه فأصابه في وجهه. وكان أبو الطيّب جريئًا في الدفاع عن نفسه وفي العتاب الجارح على الحسّاد وعلى سيف الدولة نفسه:

                     أَزِل حَسَدَ الحُسّادِ عَنّي بِكَبتِهِم 

فَأَنتَ الَّذي صَيَّرتَهُم لِيَ حُسَّدا

                وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني  

  أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

أو في قوله:

                     يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي

فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

                                                                                             إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا 

فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ

ويتابع الشاعر منفعلًا ومخاطبًا سيف الدولة: أنت أيها الأمير المشهود لك بالمواقف العادلة والمحقّة تعرف من أنا وكيف كانت مواقفي معك ومساندتي الدائمة لك، فكيف تسمع للوشاة والحسّاد أن يغرّوك ويتآمرون عليّ بوجودك وأنت تعرف ما هي منزلتي وما هي منزلتهم:

                                                                                            سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا 

         بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ 

 أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي                     

 وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ                           

 أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا               

 وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ                     

وها أنا أمام الأشهاد أبيّن في شعري المميّز والساطع كالشمس نورًا وضياءً، ينظر إليه الأعمى رغم فساد حاسّة بصره، ويسمعه الأصمّ رغم فساد حاسة سمعه، والذي لا يحفل بمعانيه الصعبة لأنه يدركها حين يشاء، في حين أن بقيّة الشعراء الحاسدين يسهرون لأجلها الليالي الطوال ويختصمون دون أن ينالوا مرادهم. وهو أيضًا لا يكترث لهؤلاء الحسّد الذين يحلمون بالقطيعة بيني وبينك ,ويصفهم بالجاهلين الذين غرتهم مجاملتهم لهم وهم يجهلون أنه قادر على أن يجازيهم ويهلكهم حين يشاء:

                     وجاهلٍ مدَّه في جهلِهِ ضَحِكي 

حَتّى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ

                       إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً 

 فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ

وأبو الطيّب معروف وموصوف بشجاعته في مواقف القتال. وقد تمرّس بها منذ صباه وبرع فيها وهو ضيف على أمير حلب حيث كان يصحبه معه في حروبه وغزواته الكثيرة في القتال وفي الساحات والميادين. والشعر كان مأخوذًا بصورة البحر وهو متلاطم الأمواج فأكثر من صوره في وصف المعارك. كما أنه كان كثير السفر، يقطع الليل والفلوات، عاشقًا للفروسيّة ويقتني لها أجود الخيل والسيوف:

                ومُرهَفٍ سِرتُ بين الجَحْفَلينِ بهِ

حتى ضَربتُ وموجُ الموتِ يَلتَطِمُ

                  الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني 

والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقَلمُ 

             صَحِبتُ في الفلواتِ الوحشَ مُنفرِداً 

حتى تعجَّبَ مني القُورُ والأكَمُ

ولم ينسَ تذكير الجميع بأنه موضع لكل تكرمة، وهو عميق المعرفة، متشعّب الثقافة أقرب على الكمال والشرف منه إلى العيب والنقصان:

                 كَم تَطلُبونَ لنا عيباً فَيُعجِزُكُم

وَيَكرَهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ

            ما أبعدَ العيبَ وَالنقصانَ عن شَرَف 

أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ

هي معانٍ أصدق ما يقال فيها أنها صورة عن حياة أبي الطيّب المتنبي المركّبة والمتمرّدة والمتعالية بكل صدق ووضوح. ولعلّ أبو الطيّب يوم أنشد تلك الأبيات في مجلس أمير حلب كان يغمره الحزن والندامة والكآبة من غضب الأمير وحقد الحاشية وكيد الحاسدين. ومع هذا فإنه كال صاع الحقد والغضب صاعين قبل أن ينسحب من حلب لتفتقد فيه رجلًا ليس ككل الرجال وشاعرًا ليس كسائر الشعراء وحالمًا بالمجد والرئاسة والتي تودي عادة بصاحبها إلى الهاوية والندم والهلاك.

وبعد، كيف دخل شاعرنا في الدور الثالث من حياته الشعرية والوجودية؟ هل كانت خاتمتها مسك ويسر ونجاح أم كانت مليئة بالمرارة والندامة والأشواك؟

لسوء الحظ فإن الأيام القادمة سيغلب عليها الشؤم والسواد. فبعد اتصاله بوالي مصر كافور الإخشيدي الذي دعاه إليه واعده بولاية. ولكن هذا الوعد كان كاذبًا وكان كافور دائمًا يسوّف بالوعود الفارغة والتي لم يفِ بها، فهجاه المتنبّي بأقذع الصفات (الخصي، الجاهل، الغادر، العبد المثقوب مشفره وغيرها من الصفات المؤلمة والمقزّزة).

ولعلّ هذه الحقبة الزمنيّة التي تسودها المرارة والألم والظلم كانت من أقسى الأيام على أبي الطيّب المتنبي، ولهذا نراه يشتم الدهر والزمن والأيام مفضّلًا الموت على الحياة العديمة في كل شيء والبعيدة عن أي خير أو جميل أو معروف:

                وَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ

إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُ

              وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ

عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ

وقد طغى على شعره السويداء وألمّ به التشاؤم والتأفّف:

                  وَإِذا لَم يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ  

 فَمِنَ العَجزِ أَن تَكونَ جَبانا

أو في قوله:

                وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أَصْطَفِيهِ 

لِعِلْمِي أَنَّهُ بَعْضُ الأَنَامِ

والحسد لم يترك للمتنبّي صاحبًا يثق به أو يعتمد عليه فالكل أصبح في المعاملة سواء:

             شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ

وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

وليست الصداقة فقط التي أصبحت في خبر كان عند شاعرنا، فالدهر أيضًا والأيام المتثاقلة تعلن عليه الحرب القاسية والمؤلمة:

                ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُ

أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُ

               أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِناً وَيَداً 

أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ

وهكذا التقى عند المتنبي الحسد مع الظلم الذي ساد العالم كله، ومن لا يظلم كأن عنده عاهة أو نقص في العقل:

              الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد 

 ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ

فالدهر ظالم وقاس مع شاعرنا، شاعر الفخر المعتز بنفسه دائمًا والذي يرفع رأسه متعاليًا بين الأنقاض والأشلاء:

           كَذا أَنا يا دُنيا إِذا شِئتِ فَاِذهَبي 

وَيا نَفسُ زيدي في كَرائِهِها قُدما

وهكذا يسخر الشاعر من نفسه ومن الحياة بعد قساوة الأيام عليه وعلى فخره وطموحاته الخياليّة وآماله الكبيرة والعريضة:

               وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً

تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ

والفخر عند المتنبّي كان العامل الأول في وفاته عندما التقى بخصمه فاتك بن جهل الأسدي، والذي كان الشاعر قد هجا أخته أم ضبّة ووصفها بالطرّطبّة. ودار بين الرجلين العراك والقتال، ولم يكن مع المتنبّي إلا بعض خدمه فقاوم مقاومة الأبطال. ولمّا رأى نفسه في مأزق حرج مع هذا الفاتك ورجاله لوى عنان فرسه وفرّ هاربًا. إلا أن أحد خدمه صاح به: “إلى أين يا متنبّي؟ ألست أنت من قال: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟” وما أن سمعه الشاعر يسخر منه حتى عاد ثانية وهو يقول لخادمه: “قتلتني قتلك الله” وبقي يقاتل حتى قتل عام ٣٥٤ للهجرة.

وكانت نهاية هذا الرجل الذي كان له علامة فارقة وبارزة في الشعر والأدب العربيين قديمًا وحديثًا، والذي سيبقى متربّعًا على عرش الشعر العربي إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

الأستاذ هاني إسماعيل
مدير ثانوية النجاح العربية
مدرّس للأدب العربي
أمين سر ندوة الخميس
رئيس منبر بعلبك الثقافي